مجزرة أسطول الحرية.. اختبار لإرادة العرب
الاربعاء 19 جمادى الآخرة 1431 الموافق 02 يونيو 2010
المصدر http://www.islamtoday.net
السيد أبو داود
المجزرةُ التي ارتكبتها "إسرائيل" بعد قيام قواتها الخاصة بالهجوم على سفن أسطول الحرية، الذي يحمل مساعدات إنسانية للفلسطينيين المحاصرين في قطاع غزة، والتي أدت إلى مقتل عشرين من هؤلاء النشطاء وإصابة 50 آخرين في عرض البحر، هذه المجزرة ينبغي مناقشة أبعادها بهدوء، كما ينبغي استغلالها فلسطينيًّا وعربيًّا من النواحي السياسية والقانونية والإعلامية أفضل استغلال، لتحويلها إلى صالح العرب وقضيتهم.
بدايةً فإنه لا يمكن لأي إنسان في العالم مهما كان وضعه أن يعترض على فكرة أسطول الحرية الذي تنبع من التعاطف والمساندة لأناس من بني البشر يتعرضون لأقسى أنواع الظلم والقهر بفعل الحصار الذي يفرضه الاحتلال الصهيوني على قطاع غزة منذ عدة سنوات، ورأى العالم على الهواء مباشرةً العدوان الأثيم من قوات الاحتلال ضد البشر والحجر في القطاع مطلع عام 2009م، والذي استخدمت فيه قوات الاحتلال الأسلحة المحرمة دوليًّا ضد المدنيين.
هذه الأوضاع التي رآها العالم، إضافةً إلى الإغلاق الدائم والمستمر للمعابر في وجه سكان القطاع، والذي حوَّل "غزة" إلى معتقل كبير، مع ما يمثِّله من حرمان المرضى والطلبة وأصحاب الحاجات من فرص العلاج والتعليم والسفر، وعدم تمكُّن من هدمت منازلهم جراء العدوان من إعادة بنائها.. كل ذلك حرك ضمائر نفرٍ من النشطاء السياسيين من مختلف أنحاء العالم، فأرادوا تنفيذ مبادرة رمزية لكسر الحصار، كي يلفتوا أنظار العالم إلى معاناة أهالي غزة، فكوَّنوا هذا الأسطول من تسع سفن هي: سفينة شحن بتمويل كويتي ترفع علم تركيا والكويت، وسفينة شحن بتمويل جزائري، وسفينة شحن بتمويل أوروبي من السويد واليونان، وست سفن لنقل الركاب تسمى إحداها "القارب 8000" نسبة إلى عدد الأسرى في سجون الاحتلال، ويحمل الأسطول 750 مشاركًا من أكثر من 60 دولة رغم أنه تلقى مئات الطلبات للمشاركة، ومن بين المشاركين 44 شخصية رسمية وبرلمانية وسياسية أوروبية وعربية بينهم عشرة نواب جزائريين.
وهكذا فإنه على أي مقياس إنساني أو سياسي أو قانوني، فإن استهداف هؤلاء المتضامنين من المدنيين من مختلف أنحاء العالم، والهجوم عليهم بالقوات المسلحة الخاصة "الكوماندوز" وإعمال آلة القتل فيهم بهذه الوحشية، فضيحة عالمية بكل المقاييس ينبغي ألا تفلت من أيدينا فرصة تعظيم الاستفادة منها كما أسلفنا.
الأمور كانت تشير إلى احتمال حدوث هجوم إسرائيلي على الأسطول، فاليهود منذ فترة وهم يهددون بمنع وصول الأسطول من الوصول إلى غزة، وبأنهم سيقودون السفن إلى ميناء أشدود واعتقال كل من على متنه في مكان هناك أعدوه مسبقًا لهذا الغرض.
حاول اليهود إقناع تركيا بمنع الأسطول من الإبحار باتجاه غزة، لكن تركيا رفضت اقتراحًا بأن تنقل إلى إسرائيل حمولات السفن المبحرة نحو القطاع من مواد غذائية وملابس ومواد بناء وغيرها من المساعدات الإنسانية لسكان القطاع على أن يتم إدخالها إلى القطاع بواسطة منظمات إغاثة دولية، تحت رقابة إسرائيلية.
العصبية التي أصابت اليهود ودفعتهم للتصرف بهذا الأسلوب الإجرامي أمام العالم أجمع، سببها أنهم يعلمون جيدًا أن توالي وصول مثل هذه المبادرات الدولية، رغم محدوديتها، يعني تعاطفًا دوليًّا متزايدًا مع الفلسطينيين وقضيتهم، وفي نفس الوقت فضح للأكاذيب "الإسرائيلية" وفضح جرائم اليهود والتأكيد على أن ما يُكتب عن الفلسطينيين في الإعلام الغربي ما هو إلا أكاذيب، ويعني أيضًا إمكانية ممارسة ضغوط دولية ذات قيمة من أجل إنهاء الحصار.
وتعتبر "إسرائيل" نجاح قوى دولية متعاطفة مع الفلسطينيين في تمرير قرارات دولية ملزِمة بفك الحصار هو خط أحمر لا يمكن السماح به، لأنه سيعني في النهاية أن المقاومة الفلسطينية انتصرت، وأن حكومة حماس المحاصرة انتصرت، وأن آلة الحرب المتطورة لم تنفع اليهود، وهذا كله من شأنه أن يقلب معادلة الصراع تمامًا.
وربما يفسر ما قلناه العنف "الإسرائيلي" المبالغ فيه في التعامل مع هؤلاء المتضامنين من المدنيين العزل، فقد تم مراقبة الأسطول بالطائرات العسكرية لفترات طويلة، ثم تم إنزال القوات التي اقتحمت سفن الأسطول بالمئات من الجنود الذين استخدموا أسلحة نارية وغازات مسيلة للدموع.
وربما أراد "الإسرائيليون" توجيه رسالة إرهاب وتخويف لمن يفكِّر بعد الآن في المشاركة في مثل هذه المبادرات التضامنية، فحينما يسقط الضحايا بالعشرات على أيدي قوات "الكوماندوز" ويُساق الباقون إلى معتقل معدّ مسبقًا لهم، كل ذلك يراه اليهود أنه رادع قوي لكي يريحوا رءوسهم من هذا الصداع مستقبلًا.
تبقى مشكلة واحدة التي فكَّر فيها "الإسرائيليون" بعض الوقت لكنهم تجاوزوها بسرعة، وهي التداعيات التي يمكن أن تحدث بعد هذه المجزرة في غير صالحهم.
والسبب في ذلك هو الصمت الدولي تجاه جرائمهم المستمرَّة في حق العرب والفلسطينيين، مما جعلهم متأكدين من أن كل خرق من جانبهم للقانون الدولي، وكل تنصُّل من مسئوليتهم، كسلطة احتلال تجاه الشعب الفلسطيني، لن يحاسبوا عليه، وإنما هناك مَن سيقف بجانبهم ويدعمهم بكل أشكال الدعم حتى يفلتوا من العقاب.
وإذا كنا فاقدي الأمل في رد الفعل الرسمي العربي، من جانب سلطة محمود عباس، ومن جانب دول الطوق وعلى رأسهم مصر والأردن، وإذا كنا أيضًا فاقدي الثقة في النظام الرسمي العربي المتمثِّل في الجامعة العربية فليس أمامنا إلا العمل الشعبي الفوري، على المستوى الإعلامي والسياسي والإنساني والاقتصادي.
فعلى المستوى الإعلامي، فإن كل الإعلاميين العرب مطالبون وبلا استثناء بالمشاركة، كل حسب إمكاناته ووضعه، بالكتابة والحديث فيما يمكن أن يصل إليه من وسائل إعلام، عربية وغير عربية، للتأكيد بكل ما يملك من ثقافة وفكر ومعلومات وقدرة على الإقناع، لإثبات أن هذه الجريمة لا تحتمل وجهتي النظر، بمعنى أن اليهود ضُبطوا وهم متلبسون أمام العالم بقتل مدنيين أبرياء من منظمات حقوق إنسان، ولا يملكون إلا ملابسهم وأقلامهم ومعوناتهم، وأن من يفعل ذلك ولا يعبأ بنتيجته فهو مجرمٌ بكل ما تحمله الكلمة، ولا يجوز بحال أن يفلت من العقاب لأنه إذا فلت فسوف يكرِّر ذلك مرات، وعيب على الضمير العالمي أن يُترك هؤلاء المعربدون بلا حساب، وعلى الإعلاميين العرب والمسلمين أن يستغلوا هذه المجزرة ليؤكدوا للعالم أنها تؤكد صدق كل ما يقوله الفلسطينيون في الجرائم التي ارتكبها "الإسرائيليون" ضدهم قبل ذلك، مما يستوجب نصرة هؤلاء المستضعفين والمظلومين بشكل أكبر وأفضل.
وإذا كان السياسيون العرب سيقفون متفرجين كما هي عادتهم، فعلى الجماهير العربية في كل مكان أن تَهُبَّ للضغط على حكامها من أجل الوقوف في وجه هذه العربدة، وليس أقل من أن توقف السلطة الفلسطينية المفاوضات مع "إسرائيل" سواء أكانت مباشرة أو غير مباشرة، وكذلك أن تلغي الجامعة العربية دعم أي مفاوضات، وكذلك الضغط من أجل سحب كل السفراء العرب في "إسرائيل" ووقف كل أشكال التطبيع.
على الشارع العربي، بما فيه من طلبة وعمال ومنظمات مجتمع مدني وأحزاب ومهنيين، الضغط بكل ما يملكون من أجل دعم المقاومة للمشروع الصهيوني، وأن يكون فتح معبر رفح هو أول هذه الخطوات، وكذلك دعم حماس بالمال والسلاح.
وعلى الشارع العربي أن يضغط وأن يمارس المقاطعة الاقتصادية ضد "إسرائيل" ومن يدعمها، وأن يضغط على الحكومات لتفعيل قرارات المقاطعة، وأن يتحدث الخبراء عن أن وقف المقاطعة والسير في اتجاه التطبيع كان كارثةً على القضية الفلسطينية، حيث أصبح اليهود يستعينون ويستقوون بالحكومات العربية على الفلسطينيين العُزَّل.
أما المجال القانونيُّ ففيه طريقان، الطريق الأول: لن تقوم به إلا الحكومات، وهو يتعلق بملاحقة مرتكبي المجزرة وقادتهم في المنظمات الدولية وفي الأمم المتحدة، والحكومات لن تفعل ذلك إلا بفضح تواطئها والضغط الشعبي عليها، والطريق الثاني: أن يبدأ الأفراد والمنظمات، بالتعاون مع الجهات المتضامنة مع أهالي غزة، في ملاحقة مرتكبي المجزرة أمام المحاكم الأوروبية.
ويجب البدءُ فورًا في إعداد كل ما يلزم من وثائق وصور وشهادات تساعد في التوثيق، وكذلك إعداد الرد القوي والمفحم على الادعاءات والأكاذيب "الإسرائيلية" التي تبرِّر سلوك العنف والقتل ضد هؤلاء المتضامنين، بأن منظمي القافلة تجاهلوا سماح إسرائيل بإدخال المساعدات وجميع ما يحتاجه سكان القطاع، حيث إنها تدخل كل شيء للقطاع، مما يعني عدم وجود أية أزمة إنسانية كما يدعي المتضامنون، وأن المتضامنين قصدوا استفزاز تل أبيب، وكان عليهم أن يطالبوا سلطات حكومة "حماس" بتمكين الصليب الأحمر الدولي من زيارة الجندي الأسير لدى حماس جلعاد شاليط إذا كانوا يهتمون أصلًا، على حد قول وزير الخارجية الإسرائيلي اليميني المتطرف، أفيغدور ليبرمان، أو كما يدعي داني آيالون نائب وزير الخارجية، أن سفن أسطول الحرية سابقة خطيرة من شأنها أن تهدد استقرار المنطقة، وأن النشطاء على متن السفن لجئوا إلى العنف أولًا، وأن السفن التي شاركت في القافلة الدولية كانت تحتوي على أسلحة وأن الجنود الذين شاركوا في عملية الاستيلاء عليها واجهوا أعمال عنف من جانب الركاب.
على حكوماتنا أن تستفيد هذه المرة من المواقف الدولية المؤيِّدة لنا هذه المرة، والمتمثلة في استنكار كثير من الدول الأوروبية للمجزرة، واستدعائها لسفرائها في تل أبيب، لأن الجريمة كانت واضحة ولا يستطيع أحد تجاهلها.
فهل نتعلم من اليهود؟ وهل نقيم الدنيا ونقعدها دفاعًا عن حقوقنا؟ وهل نصحح أخطاءنا التي وقعنا فيها قبل ذلك؟ وهل نستغلُّ الدعم الذي يأتينا من غيرنا؟ وهل تكره حكوماتنا هذه المرة "إسرائيل" مثلما تكره حماس والمقاومة؟ وهل تتفق إرادة قادتنا ولو مرة ويقولون للأمريكان: لا؟