أسطول الحرية.. خسائر استراتيجية لإسرائيل
الخميس 20 جمادى الآخرة 1431 الموافق 03 يونيو 2010
المصدر:http://www.islamtoday.net
صالح النعامي
مرةً أخرى تثبت الأحداث أنه عندما تستحيل العواطف إلى خطط عمل والخطابات الحماسية إلى مشاريع وتحرُّكات على الأرض تكون النتيجة واضحة للعيان؛ هذا ما أثبته أسطول الحرية الذي ضم متضامنين عرب وأجانب قَدِموا بقصد كسر الحصار الظالم المفروض منذ أكثر من ثلاثة سنوات ونصف، فرغم الشهداء والجرحى بين صفوف المتضامنين فإنه يمكن القول بأنه في العقود الثلاث الأخيرة لم يمر على إسرائيل لحظة عصيبة مثلما ما تمرُّ به هذه الأيام، فالكيان الذي بدا في البداية واثق من نفسه ويتصرف كما أنه يدرك عواقب ما يقدم عليه أخذت تعصف به الفوضى والارتباك في ظلِّ عجزه عن وقف تدهور مكانته الدولية وتراجعها إلى حضيض غير مسبوق.
حلفاء إسرائيل وأصدقاؤها باتوا يتعاملون معها كما لو كانت عبئًا ثقيلًا على كاهلهم، فلا أحد الآن معني بأن يبدو كما لو كان يقف في المربع الذي تقف فيه إسرائيل، تبدو إسرائيل كدولة مارقة، ويبدو زعماؤها كما لو كانوا جرذان يديرون منظمة من منظمات العالم السفلي أكثر مما يديرون كيانًا سياسيًّا.
الخسائر الاستراتيجية التي مُنِّيت بها إسرائيل أكبر من أن تُحصى في هذه اللحظة لأنه ببساطة لا يعرف أحد إلى أين ستتدحرج كرة الثلج التي دفع بها أسطول الحرية، تركيا التي كانت أوثق حلفاء إسرائيل تندفع في مسار مغاير تمامًا، ورويدًا رويدًا يتقلَّص هامش المناورة أمام عسكر أنقرة وبعض النخب العلمانية التي كانت تؤمن حتى وقت قريب بأهمية العلاقة مع إسرائيل، لا تتوقف خسائر إسرائيل على الصعيد التركي على سحب السفير من تل أبيب وإلغاء المناورات المشتركة، بل يتعداه إلى إمكانية وقف العمل بالاتفاقية الأمنية التي وقعت قبل عشر سنوات، علاوة على وضع حد للتنسيق الأمني مع عسكر تركيا الذي استفادت منه الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية في اختراق العالم العربي، كما دلَّت على ذلك الكثير من عمليات التجسس والاغتيال التي كشف النقاب عنها مؤخرًا، والذي تابع تغطية قنوات التلفزة والصحف والمواقع الإخبارية الصهيونية باللغة العبرية يدرك بسرعة أن هناك حالة خوف هستيري تجتاح إسرائيل من تداعيات التورط مع تركيا؛ هناك في تل أبيب مَن يتحدث عن إحياء دولة الخلافة الإسلامية، ويتحدث معلق وصحفي إسرائيلي متمرس مثل آرييه شافيت عن خروج المارد الإسلامي من القمقم، وأن دماء المتضامنين مع غزة هي التي دفعت بالآلاف للتظاهر في شوارع أوروبا ومحاولة اقتحام السفارات الإسرائيلية في جميع أرجاء العالم، وهي الدماء التي دفعت حاليًا بشن أكبر حملة لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية، في الوقت الذي باتت فيه المزيد من الجامعات في أوروبا تعلن عن وقف تعاملها مع الأكاديميين الإسرائيليين على خلفية المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل. من كان يتوقع أن تقدم دولة كاليونان على إلغاء مناورات عسكرية مع إسرائيل، مع العلم بأن اليونان كانت قد سمحت في السابق لسلاح الجو الإسرائيلي على التدرُّب في أجوائها ومياهها الإقليمية على قصف إيران، وكيف تتحرك دولة مثل السويد لإلغاء مباراة كرة قدم بين منتخبها والمنتخب الإسرائيلي.
إن أكثر دول أوروبا تحالفًا وصداقة مع إسرائيل مثل ألمانيا وهولندا وإيطاليا باتت تضيق ذرعا بالسلوك الإسرائيلي، لدرجة أن وزير الصناعة والتجارة الإسرائيلي بنيامين بن إليعازر يصف علاقة إسرائيل بأوروبا بالـ "كارثية" وحتى الإدارة الأمريكية التي عملت على منع إصدار مجلس الأمن تنديدًا قويًّا ضد إسرائيل باتت تدرك أن إسرائيل تمثل بالفعل عبئًا كبيرًا على مصالح الولايات المتحدة، وبالمناسبة فإن إسرائيل باتت تعلم حساسية الموقف، وهذا ما عبَّر عنه مئير دجان رئيس جهاز الموساد الذي أكد أن هناك دلائل على أن الكثير من المستويات في الإدارة الأمريكية باتت ترى في إسرائيل عبئًا ثقيلًا على المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة.
إن ما قام به "أسطول الحرية" مثَّل بداية نهاية الحصار الظالم المفروض على القطاع بعكس ما راهنت إسرائيل، وهذا ما بات يدركه الكثيرون في إسرائيل، لدرجة أن بعض المعلِّقين الصهاينة باتوا يطالبون الحكومة الإسرائيلية بالتوصل مع حركة حماس لصفقة تفضي إلى الإفراج عن الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط حتى يكون هناك مبرِّر لرفع الحصار عن القطاع ونزع الذرائع من المنظمات الدولية والعربية لمواصلة إحراج إسرائيل المرة تلو الأخرى.
لكن الإنجاز الأهم لأسطول الحرية -في نظري- هو أنه أحيا موات العالم العربي، فمن الكويت حتى المغرب يتم الإعلان بشكل متواصل عن المشاركة أسطول تضامن عربي، من المؤكد أنه سيشكِّل صفعةً قوية لمواقف العديد من أنظمة الحكم العربية التي تواطأت مع إسرائيل في فرض الحصار، بل إنها حرصت على تطبيقه بشكل أكثر قسوة، لذا لم يكن صدفة قرار النظام المصري إعادة فتح معبر رفح الحدودي على الرغم من أن أركان النظام كانوا حتى وقت قصير يقطعون الليل بالنهار وهم يشدِّدون على مسوِّغات إبقائه مغلقًا وربطه بالمصالحة الداخلية التي تم ربطها بضرورة موافقة حماس على شروط الرباعية المتمثلة في الاعتراف بإسرائيل ونبذ المقاومة بوصفها إرهابًا، والاعتراف بالاتفاقيات مع إسرائيل.
إن العبرة الأساسية مما جرى تتلخَّص في أنه يتوجب على النخب العربية أن تتوقف عن الاستغراق في العواطف والولوج إلى دائرة العمل، فلم يعُدْ مقبولًا أن يطلّ علينا العلماء والمفكرون والكتاب وهم يحثون على نصرة غزة وهم باقون في بروجهم العاجية. لقد كانت مشاركة بعض العلماء في أسطول الحرية وتقديمهم القدوة الحسنة خطوة بالغة الأهمية، وهي تصلح لتذكير العلماء بالطرق المثلى لنصرة الأقصى ومن يعيشون في أكناف بيت المقدس.